الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة **
فيها تحركت القرامطة على البصرة فجهز بهاء الدولة إليهم جيشًا فرجعوا عنها. وفيها زلزلت الدنيا زلزلة عظيمة مات فيها تحت الهم خلق كثير. وفيها أمر صمصام الدولة بقتل من كان بفارس من الأتراك كل ذلك ولم ينتج أمر صمصام الدولة. وفيها توفي طغان صاحب بهاء الدولة الذي كان ندبه لقتال صمصام الدولة بشيراز. وفيها حج بالناس أحمد بن محمد بن عبد الله العلوي من العراق وبعث بدر بن حسنويه الكردي خمسة آلاف دينار إلى الاصيفر الأعرابي الذي كان يقطع الطريق على الحاج عوضًا عما كان يأخذه من الحاج وجعل ذلك رسمًا عليه في كل سنة من ماله رحمه الله. وفيها توفي الوزير الصاحب إسماعيل بن عباد بن العباس أبو القاسم وزير مؤيد الدولة بن ركن الدولة الحسن بن بويه ثم وزر لأخيه فخر الدولة. كان أصله من الطالقان وكان نادرة زمانه وأعجوبة عصره في الفضائل والمكارم. أخذ الأدب عن الوزير أبي الفضل بن العميد وزير ركن الدولة بن بويه وسمع الحديث من أبيه ومن غير واحد وحدث باليسير. وهو أول وزير سمي بالصاحب لأنه صحب مؤيد الدولة من الصبا فسماه الصاحب فغلب عليه ثم سمي به كل من ولي الوزارة حتى حرافيش زماننا حملة اللحم وأخذة المكوس! وقيل: إنه كان يصحب ابن العميد فقيل له صاحب ابن العميد ثم خفف فقيل الصاحب. ولما ولي الوزارة قال فيه أبو سعيد الرستمي: ورث الوزارة كابرًا عن كابر موصولة الإسناد بالإسناد يروي عن العباس عباد وزا - - رته وإسماعيل عن عباد ولما مات مؤيد الدولة تولى السلطنة أخوه فخر الدولة فأقر الصاحب هذا على وزارته فعظم أمره أكثر ما كان وبقي في الوزارة ثمانية عشر عامًا وفتح خمسين قلعة وسلمها إلى فخر رق الزجاج وراقت الخمر وتشابها فتشاكل الأمر فكأنما خمر ولا قدح وكأنما قدح ولا خمر وله القصيدة التي أولها: تبسم إذ تبسم عن أقاحي وأسفر حين أسفر عن صباح وقيل: إن القاضي العميري أرسل إلى الصاحب كتبًا كثيرة وكتب معها يقول: العميري عبد كافي الكفاة وإن اعتد في وجوه القضاة خدم المجلس الرفيع بكتب مفعمات من حسنها مترعات فأخذ منها الصاحب بن عباد كتابًا واحدًا وكتب معها: قد قبلنا من الجميع كتابًا ورددنا لوقتها الباقيات لست أستغنم الكثير فطبعي قول خذ ليس مذهبي قول هات ومات الصاحب بالري عشية ليلة الخميس خامس عشرين صفر وأغلقت له مدينة الري وحضر مخدومه فخر الدولة وجميع أعيان مملكته وقد غيروا لباسهم. فلما خرج نعشه صاح الناس صيحة واحدة وقبلوا الأرض لنعشه ومشى فخر الدولة أمام نعشه وقعد للعزاء أيامًا ورثاه الشعراء بعدة قصائد. وليس هذا محل الإطناب في التراجم سوى تراجم ملوك مصر التي بسببها صنف هذا الكتاب. وفيها توفي علي بن عمر بن أحمد بن مهدي بن مسعود بن النعمان بن دينار بن عبد الله أبو الحسن البغدادي الدارقطني الحافظ المشهور صاحب التصانيف. سمع من أبي القاسم البغوي وخلق كثير ببغداد والكوفة والبصرة وواسط ورحل في كهولته إلى الشام ومصر فسمع القاضي أبا الطاهر الذهلي وطبقته وروى عنه أبو حامد الأسفرايني وأبو عبد الله الحاكم وعبد الغني بن سعيد المصري وخلق سواهم. قال الخطيب أبو بكر: كان الدارقطني فريد عصره ووحيد دهره ونسيج وحده وإمام وقته انتهى إليه علم الأثر والمعرفة بعلل الحديث وأسماء الرجال وأحوال الرواة مع الصدق والثقة وصحة الاعتقاد. وكانت وفاته في ثامن ذي القعدة. وفيها توفي عمر بن أحمد بن عثمان بن أحمد بن أيوب بن أزداد الشيخ أبو حفص بن شاهين الحافظ الواعظ محدث بغداد ومفيدها سمع الكثير وحدث ومولده سنة سبع وتسعين ومائتين. قال ابن ماكولا: كان ثقة مأمونًا سمع بالشام والعراق والبصرة وفارس وجمع الأبواب والتراجم وصنف كثيرًا. وفيها توفي أبو الحسن عباد بن العباس والد الصاحب بن عباد المقدم ذكره مات بعد ابنه بمدة يسيرة. وكان فاضلًا جليلًا سمع الحديث وصنف كتاب أحكام القرآن. وقد تقدم أن أصلهم من الطالقان وهي قرية كبيرة بين قزوين وأبهر وحولها عدة قرى وقيل: هو إقليم يقع عليه هذا الاسم. وبخراسان مدينة يقال لها طالقان غير هذه. وفيها توفي بشر بن هارون أبو نصر النصراني الكاتب كان شاعرًا هجاء خبيث اللسان كتب مرة إلى إبراهيم الصابىء: حضرت بالجسم وقد كنت بالن - - فس وإن لم ترني حاضرا أنطقني بالشعر حبي لكم ولم أكن من قبلها شاعرا فكتب إليه الصابىء تحت خطه: ولا بعدها. وفيها توفي الحسن بن حامد بن الحسن بن حامد بن الحسن بن حامد أبو محمد الأديب الشاعر كان فاضلًا يتجر وله مال كثير. ولما قدم المتنبي بغداد خدمه فقال له المتنبي: لو كنت مادحًا تاجرًا لمدحتك. وفيها توفي عقيل بن محمد بن عبد الواحد أبو الحسن الأحنف العكبري الأديب الشاعر. ومن شعره: من أراد العز والرا - - حة من هم طويل وفيها توفي محمد بن عبد الله بن محمد بن سكرة أبو الحسن الهاشمي البغدادي الشاعر المشهور ويعرف بابن رابطة. هو من ولد علي بن المهدي من بني العباس. كان شاعرًا ظريفًا فصيحًا وشعره في غاية الجودة والرقة. من ذلك قوله: في وجه إنسانةٍ كلفت بها أربعة ما اجتمعن في أحد الوجه بدر والصدغ غالية والريق خمر والثغر من برد أمر النيل في هذه السنة: الماء القديم ثلاث أذرع وخمس عشرة إصبعًا. مبلغ الزيادة ست عشرة ذراعًا وسبع أصابع. السنة الحادية والعشرون من ولاية العزيز نزار وفيها مات وهي سنة ست وثمانين وثلاثمائة. فيها في المحرم ادعى أهل البصرة أنهم كشفوا عن قبر عتيق فوجدوا فيه ميتًا طريًا بثيابه وسيفه وأنه الزبير بن العوام فأخرجوه وكفنوه ودفنوه بالمربد وبنى عليه أبو المسك عنبر بناءً وجعله مشهدًا وأوقف عليه أوقافًا ونقل إليه القناديل والآلات. قال الذهبي: فالله أعلم من ذلك الميت. وفيها توفي أحمد بن علي بن أحمد أبو علي المدائني ويلقب بالهائم. وجه اليماني من تأمله أبصر فيه الوجود والعدما قد شاب عثنونه وشاربه وعارضاه لم يبلغا الحلما وفيها توفي محمد بن علي بن عطية أبو طالب الحارثي مصنف كتاب قوت القلوب. كان من أهل الجبل ونشأ بمكة وتزهد وكان له لسان حلو في الوعظ والتصوف. وفيها توفي محمد بن إبراهيم بن أحمد أبو بكر السوسي شيخ الصوفية بدمشق كان زاهدًا عابدًا ما عقد على درهم ولا دينار ولا اغتسل من حلال ولا حرام حدث عن أحمد بن عطاء الروذباري وأقرانه ولقي المشايخ. الذين ذكر الذهبي وفاتهم في هذه السنة قال: وفيها توفي أبو حامد أحمد بن عبد الله النعيمي بهراة في شهر ربيع الأول وأبو أحمد عبد الله بن الحسين بن حسنون السامري وأبو أحمد عبيد الله بن يعقوب بن إسحاق الأصبهاني روى عن جده مسند أحمد بن منيع وأبو الحسن علي بن عمر الحربي السكري في شوال وله تسعون سنة وأبو عبد الله الختن شيخ الشافعية محمد بن الحسن الإستراباذي وأبو طالب محمد بن علي بن عطية المكي صاحب القوت في جمادى الآخرة والعزيز نزار بن المعز العبيدي في رمضان عن ثلاث وأربعين سنة. أمر النيل في هذه السنة: الماء القديم ثلاث أذرع وخمس أصابع. مبلغ الزيادة خمس عشرة ذراعًا وثلاث وعشرون إصبعًا. ولاية الحاكم بأمر الله هو أبو علي منصور الحاكم بأمر الله بن العزيز بالله نزار بن المعز بالله معد بن المنصور بالله إسماعيل بن القائم بأمر الله محمد بن المهدي عبيد الله العبيدي الفاطمي المغربي الأصل المصري المولد والدار والمنشأ الثالث من خلفاء مصر من بني عبيد والسادس منهم ممن ولي من أجداد بالمغرب وهم: المهدي والقائم والمنصور المقدم ذكرهم. مولده يوم الخميس لأربع ليال بقين من شهر ربيع الأول سنة خمس وسبعين وثلاثمائة بالقاهرة وقيل: في الثالث والعشرين منه. وولاه أبوه العزيز عهد الخلافة في شعبان سنة ثلاث وثمانين وثلاثمائة وبويع بالخلافة يوم مات أبوه يوم الثلاثاء لليلتين بقيتا من شهر رمضان سنة ست وثمانين وثلاثمائة فولي الخلافة وله إحدى عشرة سنة ونصف وقيل: عشر سنين ونصف وستة أيام وقيل غير ذلك. قال العلامة أبو المظفر بن قزأوغلي في تاريخه: وكانت خلافته متضادة بين شجاعة وإقدام وجبن وإحجام ومحبةٍ للعلم وانتقام من العلماء وميل إلى الصلاح وقتل الصلحاء. وكان الغالب عليه السخاء وربما بخل بما لم يبخل به أحد قط. وأقام يلبس الصوف سبع سنين وامتنع من دخول الحمام وأقام سنين يجلس في الشمع ليلًا ونهارًا ثم عن له أن يجلس في الظلمة فجلس فيها مدة. وقتل من العلماء والكتاب والأماثل ما لا يحصى وكتب على المساجد والجوامع سب أبي بكر وعمر وعثمان وعائشة وطلحة والزبير ومعاوية وعمرو بن العاص رضي الله عنهم في سنة خمس وتسعين وثلاثمائة ثم محاه في سنة سبع وتسعين وأمر بقتل الكلاب وحرم بيع الفقاع وعمله ثم نهى عنه ورفع المكوس عن البلاد وعما يباع فيها ونهى عن النجوم وكان ينظر فيها ونفى المنجمين وكان يرصدها ويخدم زحل وطالعه المريخ ولهذا كان يسفك الدماء. وبنى جامع القاهرة وجامع راشدة على النيل بمصر ومساجد كثيرة ونقل إليها المصاحف المفضضة والستور الحرير وقناديل الذهب والفضة ومنع من صلاة التراويح عشر سنين ثم أباحها وقطع الكروم ومنع من بيع العنب ولم يبق في ولايته كرمًا وأراق خمسة آلاف جرة من عسل في البحر خوفًا من أن تعمل نبيذًا ومنع النساء من الخروج من بيوتهن ليلًا ونهارًا وجعل لأهل الذمة علامات يعرفون بها وألبس اليهود العمائم السود وأمر ألا يركبوا مع المسلمين في سفينة وألا يستخدموا غلامًا مسلمًا ولا يركبوا حمار مسلم ولا يدخلوا مع المسلمين حمامًا وجعل لهم حمامات على حدة ولم يبق في ولايته ديرًا ولا كنيسة إلا هدمها ونهى عن تقبيل الأرض بين يديه والصلاة عليه في الخطب والمكاتبات وجعل مكان الصلاة عليه: السلام على أمير المؤمنين ثم رجع عن ذلك وأسلم خلق من أهل الذمة خوفًا منه ثم ارتدوا وأعاد الكنائس إلى حالها. انتهى كلام أبي المظفر. قال الحافظ أبو عبد الله الذهبي في تاريخه: كان جوادًا سمحًا خبيثًا ماكرًا رديء الاعتقاد سفاكًا للدماء قتل عددًا كبيرًا من كبراء دولته صبرًا وكان عجيب السيرة يخترع كل وقت أمورًا وأحكامًا يحمل الرعية عليها فأمر بكتب سب الصحابة على أبواب المساجد والشوارع وأمر العمال بالسب في الأقطار في سنة خمس وتسعين وثلاثمائة وأمر بقتل الكلاب في مملكته وبطل الفقاع والملوخيا ونهى عن السمك وظفر بمن باع ذلك فقتلهم ونهى في سنة اثنتين وأربعمائة عن بيع الرطب ثم جمع منه شيئًا عظيمًا فأحرق الكل ومنع من بيع العنب وأباد كثيرًا من الكروم وأمر النصارى بأن تعمل في أعناقهم الصلبان وأن يكون طول الصليب ذراعًا وزنته خمسة أرطال بالمصري وأمر اليهود أن يحملوا في أعناقهم قرامي الخشب في زنة الصلبان أيضًا وأن يلبسوا العمائم السود ولا يكتروا من مسلم بهيمة وأن يدخلوا الحمام بالصلبان ثم أفرد لهم حمامات. وفي العام أمر بهدم الكنيسة المعروفة بالقمامة. ولما أرسل إليه ابن باديس ينكر عليه أفعاله أراد استمالته فأظهر التفقه وحمل في كمه الدفاتر وطلب إليه فقيهين وأمرهما بتدريس مذهب مالك في الجامع ثم بدا له فقتلهما صبرًا وأذن للنصارى الذين أكرههم إلى الإسلام في الرجوع إلى الشرك. وفي سنة أربع وأربعمائة منع النساء من الخروج في الطريق ومنع من عمل الخفاف لهن فلم يزلن ممنوعات سبع سنين وسبعة أشهر حتى مات. ثم إنه بعد مدة أمر ببناء ما كان أمر بهدمه من الكنائس. وكان أبوه العزيز قد ابتدأ ببناء جامعه الكبير بالقاهرة يعني الذي هو داخل باب النصر فتممه هو. وكان على بنائه ونظره الحافظ عبد الغني بن سعيد. وكان الحاكم يفعل الشيء ثم ينقضه. وخرج عليه أبو ركوة الوليد بن هشام العثماني الأموي الأندلسي بنواحي برقة فمال إليه خلق عظيم فجهز الحاكم لحربه جيشًا فانتصر عليهم أبو ركوة وملك ثم تكاثروا عليه وأسروه ويقال: إنه قتل من أصحابه مقدار سبعين ألفًا. وحمل أبو ركوة إلى الحاكم فذبحه في سنة سبع وتسعين. انتهى كلام الذهبي باختصار. قلت: ونذكر واقعته مع عساكر الحاكم وكيف ظفر به الحاكم وقتله مفصلًا في سنة سبع وتسعين المذكورة في الحوادث بأوسع من هذا إن شاء الله تعالى لأن قصته غريبة فتنظر هناك. وقال ابن خلكان: وكان أبو الحسن علي المعروف بابن يونس المنجم قد صنع له الزيج المعروف بالحاكمي وهو زيج كبير مبسوط. قال: نقلت من خط الحافظ أبي طاهر أحمد بن محمد السلفي رحمه الله تعالى أن الحاكم المذكور كان جالسًا في مجلسه العام وهو حفل بأعيان دولته فقرأ بعض الحاضرين: " فلما فرغ من القراءة قرأ شخص يعرف بابن المشجر والمشجر بضم الميم وفتح الشين المعجمة والجيم المشددة وبعدها راء مهملة وكان ابن المشجر رجلًا صالحًا فقرأ: " فلما انتهت قراءته تغير وجه الحاكم ثم أمر لابن المشجر المذكور بمائة دينار ولم يطلق للآخر شيئًا. ثم إن بعض أصحاب ابن المشجر قال له: أنت تعرف خلق الحاكم وكثرة استحالاته وما تأمن أن يحقد عليك وأنه لا يؤاخذك في هذا الوقت ثم يؤاخذك بعدها فالمصلحة عندي أن تغيب عنه. فتجهز ابن المشجر إلى الحج وركب في البحر وغرق. فرآه صاحبه في النوم فسأله عن حاله فقال: ما قصر الربان معنا أرسى بنا على باب الجنة. انتهى كلام ابن خلكان رحمه الله. وقال ابن الصابىء: كان الحاكم يواصل الركوب ليلًا ونهارًا ويتصدى له الناس على طبقاتهم فيقف عليهم ويسمع منهم فمن أراد قضاء حاجته قضاها في وقته ومن منعة سقطت المراجعة في أمره. وكان المصريون موتورين منه فكانوا يدسون إليه الرقاع المختومة بالدعاء عليه والسب له ولأسلافه والوقوع فيه وفي حرمه حتى انتهى فعلهم إلى أن عملوا تمثال امرأة من قراطيس بخف وإزار ونصبوها في بعض الطرق وتركوا في يدها رقعة كأنها ظلامة فتقدم الحاكم وأخذها من يدها. فلما فتحها رأى في أولها ما استعظمه فقال: انظروا هذه المرأة من هي فقيل له: إنها معمولة من قراطيس فعلم أنهم قد سخروا منه وكان في الرقعة كل قبيح. فعاد من وقته إلى القاهرة ونزل في قصره واستدعى القواد والعرفاء وأمرهم بالمسير إلى مصر وضربها بالنار ونهبها وقتل من ظفروا به من أهلها فتوجه إليها العبيد والروم والمغاربة وجميع العساكر. وعلم أهل مصر بذلك فاجتمعوا وقاتلوا عن نفوسهم وأوقعوا النار في أطراف البلد فاستمرت الحرب بين العبيد والعامة والرعية ثلاثة أيام والحاكم يركب في كل يوم إلى القرافة ويطلع إلى الجبل ويشاهد النار ويسمع الصياح ويسأل عن ذلك فيقال له: العبيد يحرقون مصر وينهبونها فيظهر التوجع ويقول: لعنهم الله! من أمرهم بهذا. فلما كان اليوم الرابع اجتمع الأشراف والشيوخ إلى الجوامع ورفعوا المصاحف وضجوا بالبكاء وابتهلوا إلى الله تعالى بالدعاء فرحمهم الأتراك والمغاربة ورقوا لهم وانحازوا إليهم وقاتلوا معهم وكان أكثرهم مخالطًا لهم ومداخلًا ومصاهرًا وانفرد العبيد وصار القتال معهم وعظمت القصة وزادت الفتنة واستظهرت كتامة والأتراك عليهم وراسلوا الحاكم وقالوا: نحن عبيد ومماليك وهذا البلد بلدك وفيه حرمنا وأموالنا وأولادنا وعقارنا وما علمنا أن أهله جنوا جناية تقتضي سوء المقابلة وتدعو إلى مثل هذه المعاملة. فإن كان هناك باطن لا نعرفه فأخبرنا به وانتظرنا حتى نخرج بعيالنا وأموالنا منه. وإن كان ما عليه هؤلاء العبيد مخالفًا لرأيك فأطلقنا في معاملتهم بما يعامل به المفسدون والمخالفون. فأجابهم بأنه ما أراد ذلك ولعن الفاعل له والآمر به وقال: أنتم على الصواب في الذب عن المصريين وقد أذنت لكم في نصرتهم والإيقاع بمن تعرض لهم. وأرسل إلى العبيد سرًا يقول: كونوا على أمركم وحمل إليهم سلاحًا قواهم به. وكان غرضه في هذا أن يطرح بعضهم على بعض وينتقم من فريق بفريق. وعلم القوم بما يفعل فراسلته كتامة والأتراك: قد عرفنا غرضك وهذا هلاك هذه البلدة وأهلها وهلاكنا معهم وما يجوز أن نسلم نفوسنا والمسلمين لقتل الحريم وذهاب المهج. ولئن لم تكفهم لنحرقن القاهرة ونستنفرن العرب وغيرهم فلما سمع الرسالة وكانوا قد استظهروا على العبيد ركب حماره ووقف بين الصفين وأومأ للعبيد بالانصراف فانصرفوا واستدعى كتامة والأتراك ووجوه المصريين واعتذر إليهم وحلف أنه بريء مما فعله العبيد وكذب في يمينه فقبلوا الأرض بين يديه وشكروه وسألوه الأمان لأهل مصر فكتب لهم وقرىء الأمان على المنابر وسكنت الفتنة وفتح الناس أسواقهم وراجعوا معايشهم. واحترق. من مصر مقدار ثلثها ونهب نصفها. وتتبع المصريون من أخذ أزواجهم وبناتهم وأخواتهم وابتاعوهن من العبيد بعد أن فضحوهن وقتل بعضهن نفوسهن خوفًا من العار. واستغاث قوم من العلوي الأشراف إلى الحاكم وذكروا أن بعض بناتهم في أيدي العبيد على أسوأ حال وسألوه أن يستخلصهن فقال الحاكم: انظروا ما يطالبونكم به عنهن لأطلقه لكم فقال له بعضهم: أراك الله في أهلك وولدك مثل ما رأينا في أهلنا وأولادنا فقد اطرحت الديانة والمروءة بأن رضيت لبنات عمك بمثل هذه الفضيحة ولم يلحقك منهن امتعاض ولا غيرة. فحلم عنه الحاكم وقال له: أنت أيها الشريف محرج ونحن حقيقون باحتمالك وإلا غضبنا عليك وزاد الأمر على الناس فيما يفجؤهم به حالًا بعد حال من كل ما تنخرق به العادات وتفسد الطاعات. ثم عن له أن يدعي الربوبية وقرب رجلًا يعرف بالأخرم ساعده على ذلك وضم إليه طائفة بسطهم للأفعال الخارجة عن الديانة. فلما كان في بعض الأيام خرج الأخرم من القاهرة راكبًا في خمسين رجلًا من أصحابه وقصد مصر ودخل الجامع راكبًا دابته ومعه أصحابه على دوابهم وقاضي القضاة ابن أبي العوام جالس فيه ينظر في الحكم فنهبوا الناس وسلبوهم ثيابهم وسلموا للقاضي رقعة فيها فتوى وقد صدرت باسم الحاكم الرحمن الرحيم. فلما قرأها القاضي رفع صوته منكرًا واسترجع وثار الناس بالأخرم وقتلوا أصحابه وهرب هو. وشاع الحديث في دعواه الربوبية وتقرب إليه جماعة من الجهال فكانوا إذا لقوه قالوا: السلام عليك يا واحد يا أحد يا محيي يا مميت وصارت له دعاة يدعون أوباش الناس ومن سخف عقله إلى اعتقاد ذلك فمال إليه خلق كثير طمعًا في الدنيا والتقرب إليه. وكان اليهودي والنصراني إذا لقيه يقول: إلهي قد رغبت في شريعتي الأولى فيقول الحاكم: افعل ما بدا لك فيرتد عن الإسلام. وزاد هذا الأمر بالناس. وقال الشيخ شمس الدين في تاريخه مرآة الزمان: رأيت في بعض التواريخ بمصر أن رجلًا يعرف بالدرزي قدم مصر وكان من الباطنية القائلين بالتناسخ فاجتمع بالحاكم وساعده على ادعاء الربوبية وصنف له كتابًا ذكر فيه أن روح آدم عليه السلام انتقلت إلى علي بن أبي طالب وأن روح علي انتقلت إلى أبي الحاكم ثم انتقلت إلى الحاكم. فنفق عند الحاكم وقربه وفوض الأمور إليه وبلغ منه أعلى المراتب بحيث إن الوزراء والقواد والعلماء كانوا يقفون على بابه ولا ينقضي لهم شغل إلا على يده. وكان قصد الحاكم الانقياد إلى الدرزي المذكور فيطيعونه. فأظهر الدرزي الكتاب الذي فعله وقرأه بجامع القاهرة فثار الناس عليه وقصدوا قتله فهرب منهم وأنكر الحاكم أمره خوفًا من الرعية وبعث إليه في السر مالًا وقال: اخرج إلى الشام وانشر الدعوة في الجبال فإن أهلها سريعو الانقياد. فخرج إلى الشام ونزل بوادي تيم الله بن ثعلبة غربي دمشق من أعمال بانياس فقرأ الكتاب على أهله واستمالهم إلى الحاكم وأعطاهم المال وقرر في نفوسهم الدرزي التناسخ وأباح لهم شرب الخمر والزناء وأخذ مال من خالفهم في عقائدهم وإباحة دمه وأقام عندهم يبيح لهم المحظورات إلى أن انتهى. وقال الذهبي: وكان يحب العزلة يعني الحاكم ويركب على بهيمة وحده في الأسواق ويقيم الحسبة بنفسه وكان خبيث الاعتقاد مضطرب العقل. يقال: إنه أراد أن يدعي الإلهية وشرع في ذلك فكلمه أعيان دولته وخوفوه بخروج الناس كلهم عليه فانتهى. واتفق أنه خرج ليلة في شوال سنة إحدى عشرة من القصر إلى ظاهر القاهرة فطاف ليلته كلها ثم أصبح فتوجه إلى شرقي حلوان ومعه ركابيان فرد أحدهما مع تسعة من العرب السويديين ثم أمر الآخر بالانصراف. فذكر أنه فارقه عند قبر الفقاعي فكان آخر العهد به يعني الحاكم. انتهى كلام الذهبي. ونذكر أمر موته بأطول من هذا من طرق عديدة. قال ابن الصابىء وغيره: إن الحاكم لما بدت عنه هذه الأمور الشنيعة استوحش الناس منه. وكان له أخت يقال لها ست الملك من أعقل النساء وأحزمهن فكانت تنهاه وتقول: يا أخي احذر أن يكون خراب هذا البيت على يديك. فكان يسمعها غليظ الكلام ويتهددها بالقتل. وبعث إليها يقول: رفع إلي أصحاب الأخبار أنك تدخلين الرجال إليك وتمكنينهم من نفسك وعمل على إنفاذ القوابل لاستبرائها فعلمت أنها هالكة معه. وكان بمصر سيف الدولة بن دواس من شيوخ كتامة وكان شديد الحذر من الحاكم وممتنعًا من دخول قصره ولقائه إلا في المواكب على ظهر فرسه واستدعاه الحاكم مرة إلى قصره فامتنع. فلما كان يوم الموكب عاتبه الحاكم على تأخره فقال له سيف الدولة المذكور: قد خدمت أباك ولي عليكم حقوق كثيرة يجب لمثلها المراعاة وقد قام في نفسي أنك قاتلي فأنا مجتهد في دفعك بغاية جهدي وليس لك حاجة إلى حضوري في قصرك. فإن كان باطن رأيك في مثل ظاهره فدعني على حالي فإنه لا ضرر عليك في تأخري عن حضور قصرك. وإن كنت تريد بي سوءًا فلئن تقتلني في داري بين أهلي وولدي يكفنونني ويتولونني أحب إلي من أن تقتلني في قصرك وتطرحني تأكل الكلاب لحمي فضحك الحاكم وأمسك عنه. وراسلت ست الملك أخت الحاكم ابن دواس هذا مع بعض خدمها وخواصها وهي تقول له: لي إليك أمر لا بد لي فيه من الاجتماع بك فإما تنكرت وجئتني ليلًا أو فعلت أنا ذلك. فقال: أنا عبدك والأمر لك. فتوجهت إليه ليلًا في داره متنكرة ولم تصحب معها أحدًا. فلما دخلت عليه قام وقبل الأرض بين يديها دفعات ووقف في الخدمة فأمرته بالجلوس وأخلي المكان. فقالت: يا سيف الدولة قد جئت في أمر أحرس به نفسي ونفسك والمسلمين ولك فيه الحظ الأوفر وأريد مساعدتك فيه فقال: أنا عبدك. فاستحلفته واستوثقت منه وقالت له: أنت تعلم ما يقصده أخي فيك وأنه متى تمكن منك لم يبق عليك وكذا أنا ونحن على خطر عظيم. وقد انضاف إلى ذلك تظاهره بادعائه الإلهية وهتكه ناموس الشريعة وناموس آبائه وقد زاد جنونه. وأنا خائفة أن يثور المسلمون عليه فيقتلوه ويقتلونا معه وتنقضي هذه الدولة أقبح انقضاء. فقال سيف الدولة: صدقت يا مولاتنا فما الرأي. قالت: قتله ونستريح منه فإذا تم لنا ذلك أقمنا ولده موضعه وبذلنا الأموال وكنت أنت صاحب جيشه ومدبره وشيخ الدولة والقائم بأمره وأنا امرأة من وراء حجاب وليس غرضي إلا السلامة منه وأني أعيش بينكم آمنة من الفضيحة. ثم أقطعته إقطاعات كثيرة ووعدته بالأموال والخلع والمراكب. فقال لها عند ذلك: مري بأمرك قالت: أريد عبدين من عبيدك تثق بهما في سرك وتعتمد عليهما في مهماتك فأحضر عبدين ووصفهما بالشهامة فاستحلفتهما ووهبتهما ألف دينار ووقعت لهما بثياب وإقطاعات وخيل وغير ذلك وقالت لهما: أريد منكما أن تصعدا غدًا إلى الجبل فإنها نوبة الحاكم في الركوب وهو ينفرد ولا يبقى معه غير القرافي الركابي وربما رده ويدخل الشعب وينفرد بنفسه فاخرجا عليه فاقتلاه واقتلا القرافي والصبي إن كانا معه وأعطتهما سكينين من عمل المغاربة تسمى الواحدة منهما: يافورت ولهما رأس كرأس المبضع الذي يفصد به الحجام ورجعت إلى القصر وقد أحكمت الأمر وأتقنته. وكان الحاكم ينظر في النجوم فنظر مولده وكان قد حكم عليه بالقطع في هذا الوقت فإن تجاوزه عاش نيفًا وثمانين سنة. وكان الحاكم لا يترك الركوب بالليل وطوف القاهرة. فلما كان تلك الليلة قال لوالدته: علي في هذه الليلة وفي غد قطع عظيم والدليل عليه علامة تظهر في السماء طلوع نجم سماه وكأني بك وقد انتهكت وهلكت مع أختي فإني ما أخاف عليك أضر منها. فتسلمي هذا المفتاح فهو لهذه الخزانة وفيها صناديق تشتمل على ثلاثمائة ألف دينار خذيها وحوليها إلى قصرك تكون ذخيرة لك. فقبلت الأرض وقالت: إذا كنت تتصور هذا فارحمني واقض حقي ودع ركوبك الليلة وكان يحبها فقال: أفعل ولم يزل يتشاغل حتى مضى صدر من الليل وكان له قوم ينتظرونه كل ليلة على باب القصر فإذا ركب ركبوا معه ويتبعه أبو عروس صاحب العسس. ومن رسمه أن يطوف كل ليلة حول القصر في ألف رجل بالطبول الخفاف والبوقات البحرية. فإذا خرج الحاكم من باب القاهرة قال له: ارجع وأغلق الأبواب فلا يفتحها حتى يعود. وضجر الحاكم من تأخره عن الركوب في تلك الليلة ونازعته نفسه إليه فسألته أمه وقالت: نم ساعة فنام ثم انتبه وقد بقي من الليل ثلثه وهو ينفخ ويقول: إن لم أركب الليلة وأتفرج وإلا خرجت روحي. ثم قام فركب حماره وأخته تراعي ما يكون من أمره وكان قصرها مقابل قصره فإذا ركب علمت. ولما ركب سار في درب يقال له درب السباع ورد صاحب العسس ونسيمًا الخادم صاحب الستر والسيف وخرج إلى القرافة ومعه القرافي الركابي والصبي. فحكى أبو عروس صاحب العسس أنه لما صعد الجبل وقف على تل كبير ونظر إلى النجوم وقال: إنا لله وإنا إليه راجعون وضرب بيد على يد وقال: ظهرت يا مشؤوم ثم سار في الجبل فعارضه عشرة فوارس من بني قرة وقالوا: قد طال مقامنا على الباب وبنا من الفاقة والحاجة ما نسأل معه حسن النظر والإحسان فأمر الحاكم القرافي أن يحملهم إلى صاحب بيت المال ويأمره أن يعطيهم عشرة آلاف درهم فقالوا له: لعل مولانا ينكر تعرضنا له في هذا المكان فيأمر بنا بمكروه ونحن نريد الأمان قبل الإحسان فما وقفنا إلا من الحاجة فأعطاهم الأمان ورد القرافي معهم وبقي هو والصبي فسار إلى الشعب الذي جرت عادته بدخوله وقد كمن العبدان الأسودان له وقد قرب الصباح فوثبا عليه وطرحاه إلى الأرض فصاح: ويلكما! ما تريدان فقطعا يديه من رأس كتفيه وشقا جوفه وأخرجا ما فيه ولفاه في كساء وقتلا الصبي وحملا الحاكم إلى ابن دواس بعد أن عرقبا الحمار فحمله ابن دواس مع العبدين إلى أخته ست الملك فدفنته في مجلسها وكتمت أمره وأطلقت لابن دواس والعبدين مالًا كثيرًا وثيابًا. وأحضرت خطير الملك الوزير وعرفته الحال واستكتمته واستحلفته على الطاعة والوفاء ورسمت له بمكاتبة ولي العهد عبد الرحيم بن الياس وكان مقيمًا بدمشق نيابة عن الحاكم بأن يحضر إلى الباب فكتب إليه بذلك. وأنفذت علي بن داود أحد القواد إلى الفرما وهي مدينة على ساحل البحر فقالت له: إذا دخل ولي العهد فاقبض عليه واحمله إلى تنيس وقيل غير ذلك كما سيأتي ذكره. ثم كتبت إلى عامل تنيس عن الحاكم بإنفاذ ما عنده من المال فأنفذه وهو ألف ألف دينار وألف ألف درهم خراج ثلاث سنين. وجاء ولي العهد إلى الفرما فقبض عليه وحمل إلى تنيس. وفقد الناس الحاكم في اليوم الثاني ومنع أبو عروس من فتح أبواب القاهرة انتظارًا للحاكم على حسب ما أمره به. ثم خرج الناس في اليوم الثالث إلى الصحراء وقصدوا الجبل فلم يقفوا له على أثر. وأرسل القواد إلى أخته وسألوها عنه فقالت: ذكر لي أنه يغيب سبعة أيام وما هنا إلا الخير فانصرفوا على سكون وطمأنينة. ولم تزل أخته في هذه الأيام ترتب الأمور وتفرق الأموال وتستحلف الجند ثم بعثت إلى ابن دواس المذكور وأمرته أن يستحلف الناس لابن الحاكم كتامة وغيرها ففعل ذلك. فلما كان في اليوم السابع ألبست أبا الحسن علي بن الحاكم أفخر الملابس واستدعت ابن دواس وقالت له: المعول في قيام هذه الدولة عليك وتدبيرها موكل إليك وهذا الصبي ولدك فابذل في خدمته وسعك فقبل الأرض ووعدها بالطاعة. ووضعت التاج على رأس الصبي وهو تاج عظيم فيه من الجواهر ما لا يوجد في خزانة خليفة وهو تاج المعز جد أبيه وأركبته مركبًا من مراكب الخليفة وخرج بين يديه الوزير وأرباب الدولة. فلما صار إلى باب القصر صاح خطير الملك الوزير: يا عبيد الدولة مولاتنا السيدة تقول لكم هذا مولاكم فسلموا عليه فقبلوا الأرض بأجمعهم وارتفعت الأصوات بالتكبير والتهليل ولقبوه الظاهر لإعزاز دين الله وأقبل الناس أفواجًا فبايعوه وأطلق المال وفرح الناس وأقيم العزاء على الحاكم ثلاثة أيام. وقال القضاعي في قتله وجهًا آخر قال: خرج الحاكم إلى الجبل المعروف بالمقطم ليلة الاثنين السابع والعشرين من شوال هذه السنة يعني سنة إحدى عشرة وأربعمائة فطاف ليلته كلها وأصبح عند قبر الفقاعي ثم توجه شرقي حلوان: موضع بالمقطم ومعه ركابيان فرد أحدهما مع تسعة نفر من العرب كانت لهم رسوم ويقال لهم السويديون إلى بيت المال وأمر لهم بجائزة ثم عاد الركابي الآخر وذكر أنه فارقه عند قبر الفقاعي والقصبة وأصبح الناس على رسمهم فخرجوا ومعهم الموكب والقضاة والأشراف والقواد فأقاموا عند الجبل إلى آخر النهار ثم رجعوا إلى القاهرة ثم عادوا ففعلوا ذلك ثلاثة أيام. فلما كان يوم الخميس سلخ شوال خرج مظفر صاحب المظلة ونسيم صاحب الستر وابن مسكين صاحب الرمح وجماعة من الأولياء الكتاميين والأتراك والقضاة والعدول وأرباب الدولة فبلغوا دير القصير المكان المعروف بحلوان وأمعنوا في الجبل فبينما هم كذلك بصروا بالحمار الذي كان راكبه على قرن الجبل قد ضربت يداه بسيف فقطعتا وعليه سرجه ولجامه فتتبعوا الأثر فإذا أثر راجل خلف أثر الحمار وأثر راجل قدامه فقصوا الأثر حتى أتوا إلى البركة التي شرقي حلوان فنزلها بعض الرجالة فوجد فيها ثيابه وهي سبع جباب مزررة لم تحل أزرارها وفيها أثر السكاكين فتيقنوا قتله. وكان عمره ستًا وثلاثين سنة وسبعة أشهر وولايته على مصر خمسًا وعشرين سنة وشهرًا واحدًا. قال ابن خلكان بعد ما ذكر قتلته بنحو ما ذكرناه هنا: مع أن جماعة من الغالين في حبهم السخيفي العقول يظنون حياته وأنه لا بد أن يظهر ويحلفون بغيبة الحاكم وتلك خيالات هذيانية. انتهى. قال القضاعي بعد ما ساق سبب قتله بنحو ما ذكرناه إلى أن قال: ثم أمرت ست الملك بخلع عظيمة ومال كثير ومراكب ذهب وفضة للأعيان وأمرت ابن دواس أن يشاهدها في الخزانة وقالت له: غدًا نخلع عليك فقبل ابن دواس الأرض وفرح. وأصبح من الغد فجلس عند الستر ينتظر الإذن حتى يأمر وينهى وكان للحاكم مائة عبد يختصون بركابه ويحملون السيوف بين يديه ويقتلون من يأمرهم بقتله فبعثت بهم ست الملك إلى ابن دواس ليكونوا في خدمته فجاؤوا في هذا اليوم ووقفوا بين يديه فقالت ست الملك لنسيم صاحب الستر: اخرج قف بين يدي ابن دواس وقل للعبيد: يا عبيد مولاتنا تقول لكم هذا قاتل مولانا الحاكم فاقتلوه فخرج نسيم فقال لهم ذلك فمالوا على ابن دواس بالسيوف فقطعوه وقتلوا العبدين اللذين قتلا الحاكم وكل من اطلع على سرها قتلته فقامت لها الهيبة في قلوب الناس. انتهى كلام القضاعي. وقال ابن الصابىء: لما قتلت ست الملك ابن دواس قتلت الوزير الخطير ومن كانت تخاف منه ممن عرف بأمرها. وأما ما خلفه الحاكم من المال فشيء كثير. قيل: إنه ورد عليه أيام خلافته رسول ملك الروم فأمر الحاكم بزينة القصر. قالت السيدة رشيدة عمة الحاكم: فأخرج أعدالًا مكتوبًا على بعضها: الحادي والثلاثون والثلاثمائة وكان في الأعدال الديباج المغرز بالذهب فأخرج ذلك وفرش الإيوان وعلق في حيطانه حتى صار الإيوان يتلألأ بالذهب وعلق في صدره العسجدة وهي درقة من ذهب مكللة بفاخر الجوهر يضيء لها ما حولها إذا وقعت عليها الشمس لا تطيق العيون النظر إليها. وأيضًا مما يدل على كثرة ماله ما خلفته ابنته ست مصر بعد موتها فخلفت شيئًا كثيرًا يطول الشرح في ذكره من ذلك ثمانية آلاف جارية قاله المقريزي وغيره ونيف وثمانون زيرًا صينيًا مملوءة جميعًا مسكًا ووجد لها جوهر نفيس من جملته قطعة ياقوت زنتها عشرة مثاقيل. وكان إقطاعها في السنة خمسين ألف دينار وكانت مع ذلك كريمة سمحة والشيء بالشيء يذكر. وماتت في أيام الحاكم عمته السيدة رشيدة بنت المعز فخلفت ما قيمته ألف وسبعمائة ألف دينار ومن جملة ما وجد لها في خزائن كسوتها ثلاثون ألف ثوب خز واثنا عشر ألفًا من الثياب المصمتة ألوانًا ومائة قطرميز مملوءة كافورًا وكانت مع ذلك دينة تأكل من غزلها لا من مال السلطان. وماتت أختها عبدة بنت المعز بعدها بثلاثة أيام وكانتا قد ولدتا برقادة من عمل القيروان. وتركت أيضًا عبدة المذكورة ما لا يحصى من ذلك: أنه ختم على موجودها بأربعين رطل شمع مصرية ومن جملة ما وجد لها ألف وثلاثمائة قطعة مينا فضة زنة كل مينا عشرة آلاف درهم وأربعمائة سيف محلى بذهب وثلاثون ألف شقة صقلية ومن الجوهر إردب زمرد وكانت لا تأكل عمرها إلا الثريد. وقد خرجنا عن المقصود ونعود إلى ما يتعلق بالحاكم وأسبابه. وأما ولي العهد الذي كان بدمشق وكتبت ست الملك بحضوره فاسمه الياس وقيل: عبد الرحيم وقيل: عبد الرحمن بن أحمد وكنيته أبو القاسم ويلقب بالمهدي ولاه الحاكم العهد سنة أربع وأربعمائة. وقد قدمنا من ذكره أنه كان وصل إلى تنيس وقبض عليه صاحب تنيس وبعث به إلى ست الملك فحبسته في دار وأقامت له الإقامات ووكلت بخدمته خواص خدمها وواصلته بالملاطفات والافتقادات فلما مرضت ويئست من نفسها أحضرت الظاهر لإعزاز دين الله أعني ابن أخيها الحاكم وقالت له: قد علمت ما عاملتك به وأقله حراسة نفسك من أبيك فإنه لو تمكن منك لقتلك وما تركت لك أحدًا تخافه إلا ولي العهد فبكى بين يديها هو ووالدته وسلمت إليهما مفاتيح الخزائن وأوصتهما بما أرادت. وقالت لمعضاد الخادم: امض إلى ولي العهد وتفقد خدمته فإذا دخلت عليه فانكب كأنك تسائله بعد أن توافق الخدم على ضربه بالسكاكين فمضى إليه معضاد فقتله ودفنه وعاد فأخبرها فأقامت بعد ذلك ثلاثة أيام وماتت. وتولى أمر الدولة معضاد الخادم المذكور ورجل آخر علوي من أهل قزوين وآخرون. وذكر القضاعي في قصة ولي العهد شيئًا غير ذلك قال: إن ست الملك لما كتبت إلى دمشق بحمل ولي العهد إلى مصر لم يلتفت إلى ذلك واستولى على دمشق ورخص للناس ما كان الحاكم حظره عليهم من شرب الخمر وسماع الملاهي فأحبه أهل دمشق. وكان بخيلًا ظالمًا. فشرع في جمع المال ومصادرة الناس فأبغضه الجند وأهل البلد. فكتبت أخت الحاكم إلى الجند فتتبعوه حتى مسكوه وبعثوا به مقيدًا إلى مصر فحبس في القصر مكرمًا فأقام مدة. وحمل إليه يومًا بطيخ ومعه سكين فأدخلها في سرته حتى غابت. وبلغ ابن عمه الظاهر بن الحاكم فبعث إليه القضاة والشهود فلما دخلوا عليه اعترف أنه الذي فعل ذلك بنفسه. وحضر الطبيب فوجد طرف السكين ظاهرًا فقال لهم: لم تصادف مقتلًا. فلما سمع ولي العهد ذلك وضع يده عليها فغيبها في جوفه فمات. وقال ابن الصابىء: وكان على حلب عند هلاك الحاكم عزيز الدولة فاتك الوحيدي وقد استفحل أمره وعظم شأنه وحدث نفسه بالعصيان فلاطفته ست الملك وراسلته وآنسته وبعثت إليه بالخلع والخيل بمراكب الذهب وغيرها ولم تزل تعمل عليه الحيل حتى أفسدت غلاما له يقال له بدر وكان مالك أمره وغلمانه تحت يده وبذلت له العطاء الجزيل على الفتك به ووعدته أن توليه مكانه. وكان لفاتك غلام هندي يهواه فاستغواه بدر المذكور وقال: قد عرفت من مولاك ملالك وتغير نيته فيك وعزم على قتلك ودافعته عنك دفعات وأنا أخاف عليك. ثم تركه بدر أيامًا ووهب له دنانير وثيابًا ثم أظهر له المحبة وقال: إن علم بنا الأمير قتلنا فقال الهندي: فما أفعل فاستحلفه بدر واستوثق منه وقال: إن قبلت ما أقول أعطيتك مالًا وأغنيتك وعشنا جميعًا في أطيب عيش. قال: فما تريد قال: تقتله ونستريح منه فأجابه وقال: الليلة يشرب وأنا أسقيه وأميل عليه فإذا سكر فأقتله. وجلس فاتك المذكور على الشرب فلما قام إلى مرقده حمل الهندي سيفه وكان ماضيًا ثم دخل في اللحاف وبدر على باب المجلس واقف. فلما ثقل فاتك في نومه غمز بدر الهندي فضربه بالسيف فقطع رأسه فصاح بدر واستدعى الغلمان وأمرهم بقتل الهندي فقتلوه. واستولى بدر على القلعة وما فيها وكتب إلى أخت الحاكم بما جرى فأظهرت الوجد على فاتك في الظاهر وشكرت بدرًا في الباطن على ما كان منه من حفظ الخزائن وبعثت إليه بالخلع ووهبت له جميع ما خلفه مولاه وقلدته موضعه. ونظرت ست الملك في أمور الدولة بعد قتل الحاكم أربع سنين أعادت الملك فيها إلى غضارته وعمرت الخزائن بالأموال واصطنعت الرجال. ثم اعتلت علة لحقها فيها ذرب فماتت منه. وكانت عارفة مدبرة غزيرة العقل. وقد خرجنا عن المقصود على سبيل الاستطراد. وكانت وفاة الحاكم ليلة الثلاثاء لليلتين بقيتا من شوال سنة إحدى عشرة وأربعمائة وكان فيه كسوف الشمس. وكانت مدة عمره ستًا وثلاثين سنة وسبعة أشهر وقيل: سبعًا وثلاثين سنة. وكانت ولايته على مصر خمسًا وعشرين سنة وشهرًا واحدًا قاله القضاعي. وتولى الملك من بعده ابنه الظاهر لإعزاز دين الله علي بن الحاكم وقام بتدبير مملكته عمته ست الملك المقدم انتهت ترجمة الحاكم. ونذكر أيضًا من أحواله نبذة كبيرة في الحوادث المتعلقة بأيامه مرتبة على السنين فيها عجائب وغرائب. وأما ما ينسب إليه من الشعر وقيل: هو للآمر العبيدي الآتي ذكره فهو قوله: دع اللوم عني لست مني بموثق فلا بد لي من صدمة المتحنق وأسقي جيادي من فرات ودجلة وأجمع شمل الدين بعد التفرق
|